وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) |
والهم هو
حديث النفس بالشيء؛ إما أن يأتيه الإنسان أو لا يأتيه. ومن رحمة ربنا بخلقه أن
من هم بسيئة وحدثته نفسه أن يفعلها؛ ولم يفعلها كتبت له حسنة. وقد جاءت العبارة
هنا في أمر المراودة التي كانت منها، والامتناع الذي كان منه، واقتضى ذلك الأمر
مفاعلة بين اثنين يصطرعان في شيء. فأحد الاثنين امرأة العزيز يقول الله في حقها:
|
والصبوة هي
حديث النفس بالشيء؛ وهو ما يثبت قدرة يوسف عليه السلام على الفعل، وحماه الله من
الصبوة؛ لأن الحق سبحانه قد قال:
...
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
...
(33)
(سورة يوسف)
وانظر إلى لقطة النسوة اللاتي تهامسن بالنميمة عن امرأة العزيز وحكايتها مع يوسف،
ألم يقلن:
.....مَا
هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
(31)
(سورة يوسف)
فحين دخل عليهن اتجهت العيون له، وللعيون لغات؛ وللانفعال لغات؛ وإلا لماذا قال
يوسف:
....
وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
...(33)
(سورة يوسف)
وهكذا نعلم أنه قد حدثت مقدمات تدل على أن النسوة نوين له مثل ما نوته امرأة العزيز؛
وظنن أن امرأة العزيز سوف تطرده؛ فيتلقفنه هن؛ وهذا دأب البيوت الفاسدة. وهل هناك
أفسد من بيت العزيز نفسه، بعد أن حكم الشاهد أنها هي التي راودت يوسف عن نفسه؛
فيدمدم العزيز على الحكاية ويقول:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ
كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
(29)
(سورة يوسف)
وكان هدف العزيز أن يحفظ مكانته من القيل والقال. وحين سأل الشاهد النسوة، بماذا
أجبن؟ يقول الحق سبحانه أن النسوة قلن:
....
مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ
.....
(51)
(سورة يوسف)
وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائماً بالغواية، وهو لا يدخل أبداً في معركة
مع الله؛ ولكنه يدخل مع خلق الله؛ لأن الحق سبحانه يورد على لسانه:
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
(82) إِلَّا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
(سورة ص)
فالشيطان نفسه يقر أن من يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز ـ هو كشيطان ـ عن
غوايته، ولا يجرؤ على الاقتراب منه. والشاهد الذي من أهل امرأة العزيز، واستدعاه
العزيز ليتعرف على الحقيقة قال:
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ
الصَّادِقِينَ
(27)
(سورة يوسف)
وبعد كل هذه الأدلة فليس من حق أحد أن يتساءل: هل هم يوسف بامرأة العزيز، أم لم يهم؟
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه:
...
لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ
....(24)
(سورة يوسف)
والبرهان هو الحجة على الحكم. والحق سبحانه هو القائل:
.....
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
(15)
(سورة الإسراء)
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
....(165)
(سورة النساء)
أي: لابد أن يبعث الحق رسولاً للناس مؤيداً بمعجزة تجعلهم يصدقون المنهج الذي
يسيرون عليه؛ كي يعيشوا حياتهم بانسجام إيماني، ولا يعذبهم الله في الآخرة. ويذيل
الحق سبحانه الآية بقوله:
.....كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
(24)(سورة يوسف)
والفحشاء هي الزنا والإتيان؛ والسوء هي فكرة الهم، وبعض المعتدلين قالوا: إنها بعد
أن راودته عن نفسه؛ وخرجت بالفعل إلى مرحلة السعار لحظة أن سبقها إلى الباب؛ فكرت
في أن تقتله؛ وحاول هو أن يدافع عن نفسه وأن يقتلها، ولو قتلها فلسوف يجازي كقاتل.
فصرف الحق عنه فكرة القتل؛ وعنى بها هنا قوله الحق "السوء"؛ ولكني اطمئن إلى أن
السوء هو فكرة الهم، وهي مقدمات الفعل.
ويقرر الحق سبحانه أن يوسف عليه السلام من عباده المخلصين، وفي هذا رد على الشيطان؛
لأن الشيطان قال:
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
(83)
(سورة ص)
وقوله الحق هنا:
.....إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
(24)
(سورة يوسف)
يؤكد إقرار الشيطان أنه لن يقرب عباد الله المخلصين. وهناك "مخلصين". و"مخلصين"
والمخلص هو من جاهد فكسب طاعة الله، والمخلص هو من كسب فجاهد وأخلصه الله لنفسه.
وهناك أناس يصلون بطاعة الله إلى كرامة الله، وهناك أناس يكرمهم الله فيطيعون الله
ـ ولله المثل الأعلى ـ منزه عن كل تشبيه، أنت قد يطرق بابك واحد يسألك من فضل الله
عليك؛ فتستضيفه وتكرمه، ومرة أخرى قد تمشي في الشارع وتدعو واحداً لتعطيه من فضل
الله عليك، أي: أن هناك من يطلب فتأذن له، وهناك من تطلبه أنت لتعطيه.
وبعد الحديث عن المراودة بما فيها من لين وأخذ ورد؛ ينتقل بنا الحق سبحانه إلى ما
حدث من حركة، فيقول تعالى: