وبعد أن
ظهرت العلامات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلام أمام العزيز وأهل مشورته،
وانكشف لهم انحراف امرأة العزيز وإصرارها على أن توقع بيوسف في الفعل الفاضح
معها، دون خجل أو خوف من الفضيحة.
لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يوضع يوسف عليه السلام في السجن؛ ليكون في ذلك
فصل بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا
السوء الذي ظهر في بيت العزيز. كما أن كلمة:
....
لَيَسْجُنُنَّهُ
....(35)
(سورة يوسف)
فيها نوع من استبقاء الحب الذي يكنه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه
بعيداً؛ بل احتفظ به بعيداً عن الزوجة المصرة على الخيانة، وعن المجتمع الذي
يلوك تلك الوقائع. والسجن ـ كما نعلم ـ هو حبس المسجون لتقييد حركته في الوجود؛
وهو إجراء يتخذه القاضي أو الحاكم كعقوبة يراد بها إذلال المسجون، أو وقاية
المجتمع من شره.
ونعلم أن الإنسان لا يجترئ على الأحكام إلا حين يظن أو يعلم أن له قدرة؛ وله
غلبة؛ فيعلن له القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة، ويأمر بدخوله إلى
السجن ويحرس تقييد حريته سجان؛ وقد يتعرض للضرب أو الإهانة.
هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة، حين تعزل المسجون عن
المجتمع، وقد يعطف عليه بعض من أبناء المجتمع، ويزوره بعض من أقاربه؛ ومعهم
المأكولات؛ والمطلوبات.
ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين عزل المجتمع
الإيماني عن السجين، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يكلم أحد
الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج معه للقتال بحجج واهية؛ بل وتسامى هذا العزل
إلى أن صار عزلاً عن الأهل، إلى أن أمر صلى الله عليه وسلم بإنهاء هذا العزل
بعد أن تحقق الغرض منه.
وماذا عن حال يوسف في السجن؟
يقول الحق سبحانه:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي
خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(36) |